صباح رامة ذات الستة أعوام

أستيقظ.. أرفع يد جدتي عني بحذر كي لا أزعجها ، أنهض بهدوء كي لا يصر السرير موقظاً إياها.. أهبط السلالم بحثاً عن جدي، فمن يعلم أين يكون.! إنه جدي قد يكون في أي مكان..المسجد، السوق، الحديقة، المستودع أو الورشة، وربما عند عمو أبو يمان أو الجار أبو نبيل وربما عميمة ثناء -لكن لا أظنه سيذهب من دوني- و أول مكان جدير بالبحث أمام التلفاز، أقاطع تصليحه لقطعة (تكاد تكون أثرية) مرتمية بأحضانه، وكعادته يجلسني على ساقه اليمنى ويبدأ بدرس التاريخ يصحبه درس الميكانيك ويسبقهما عدة قُبل وربما بعض الأبيات المرتجلة، ثم وبعد أن تزودت روحياً وذهنياً بالطاقة اللازمة ،أبدأ بمساعدته فيما نحن نتبادل أطراف الحديث وننتقل من عمل لآخر دون حتى أن ندرك، متراقصين متناغمين تماماً كالعصافير على شجرة الليمون العتيدة، تسبقنا ضحكاتنا وحكاياتنا..تستقبلنا القطط عند الفل وتودعنا العصافير عند الجوري لأبدأ بعد ذلك باللعب بينما يتابع جدي عمله الذي لا ينتهي

ينادينا صوت جدتي وتصرخ كل التليفونات “ياااا اأو كااامل”..”أبو كاامل” ثم ما تلبث التليفونات أن تصمت حتى تبدآ جدتي و جيهان بالبحث عنا فواحدة تنادي من النافذة وأخرى تبحث بالورشة..لندخل أخيراً إلى المنزل -ونغسل ما تيسر من جسدينا- ثم نجلس إلى طاولة المطبخ ونبدأ بالأكل ربما عسل بشهدة..ربما حبوب أو حواضر وفي الغالب معمول جدتي مع كأس من الحليب البارد، وتتبع ذلك جدتي بسفرة فطور (معتبرة) مثالية كالعادة وتشاركناجيهان الفطور حيث أني استوليت على فطورها صباحاً -أعلم اني لم أذكر هذا فيما سبق- لكنه بديهيّ ههههه

مع ذلك أسمع من جدتي الجملة المعتادة : ( يعقلبي جوعانة..حرام عليك شوف وشها شقد أحمر فروض أجتها ضربة شمس) فأهلس في سري بينما ينظر لي جدي

..ويغمزني مبتسماً

أنهي الفطور وأطالب جدي بأن يحكي لي بعضاً من قصص الكشافة أو عن عشقه الأزلي (بدر الدجى) وبعدها أقبل جدي وجدتي ولا أنسى من القبل ماما جيهان ..آخذ بيدي عروسة جبنة وأنطلق إلى الحديقة مجدداً فتكون وجهتي الأولى الأرجوحة الخشبية التي من صنع جدي، أحاول جاهدة إنزالها لكن يد جدي وقامته الطويلة تسعفانني دائماً وتنقذا أغصان الشجرة المسكينة من التكسر أثناء محاولاتي تسلقها

أركب وأبدأ بالغناء حيث يشاركني جدي (واااحد..تنييين..تلاااتة….) إلى (…بيوقع بيتكسر) فأقفز مغمضة عيني وفاتحة ذراعي للسماء منتظرة من أحضان السماء أن تدركني بعد أن كنت طوال الأغنية وبعد كل كلمة أمد يدي لها وأقول وصلت للسماء ياجدي.. فتخذلني وتبتعد فأعود لها بلهفة ودفعة أقوى وأكرر وصلت ياجدي..وصلت ..فتبتعد أكثر وأصرخ بصوت أعلى ….أنتظر لا تنهي الأغنية حقاً سأصل هذه المرة

..تنتهي الأغنية ..ويختفي صوت جدي ..ومعه السماء ..وعروسة الجبنة.. لتلتقطني خيبتي

أفتح عيناي في سريري بعد عشرة سنوات

فلا أجد رائحة جدي على الوسائد.. ولا يد جدتي على رأسي.. ويصر السرير اللعين.. لقد كبرتِ….لقد كبرتِ

٢٠١٩/١/١٦م الثالثة فجراً ….لقد كبرت

!.شارك مع أصدقائك

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on email
Email
Share on whatsapp
WhatsApp

This Post Has One Comment

  1. jamal

    كتبت فأحسنت التصوير
    وأجدت الوصف
    أثرت أشواقنا للأحبة وجدك الغالي
    رحمه الله
    وما استطعت مغالبة دموعي
    حماك الله

Leave a Reply

المزيد للقراءة

عصفورة

عصفورةٌ طارت إليَّ تبخترا…ألقت سلاماً بالحياءِ تخمرا من حلوةٍ ذاب الفؤاد بحبها…شقراءُ تخفي في عيونها أبحرا كالبدر إن طلَّت أنار جمالها…والجمع ُإن تبدو يصيح مكبرا

...تابع القراءة

الرمادي

..أكره اللون الرمادي بشدة..أكرهه من أعماق أعماق قلبي عاهدت نفسي أن لا أقحم الكره في قلبي ما حيّت لكنه نجح باعجوبة بكسر عهدي..لربما ليس ذنبه

...تابع القراءة