آخر مئة كيلو

طال الطريق كثيراً.. وبقى الصمت على طوله سيد الموقف
أول رحلةٍ في حياتي أود لو لا تنتهي.. تخيل عاشقة الرحلات التي لطالما تخففت من الحياة وألقت نفسها ظلالاً على طرقات المدينة لتسرح بها كالريح، ما تلبث ان تنهي رحلة حتى تبدأ بأخرى.. أنا التي لم يكبلها رأي ولم يقمعها قانون ولم يحبسها شيء أو أحد.. أتخيل نفسي ما شئت متى شئت فأكتبني كما يروقني على صفحات عمري و أمسح ما يعكر صفوي من الدنيا.. اتمنى الآن عاجزةً لو تحبسني لحظة
إذ يعد فوق راسي تنازلياً كلما غابت عيني عن الطريق باحثة عما ستعلق عليه آمالها ما رأت ضوءاً
“مئة كيلو للحدود”
فيضرب قلبي مئة ألف ضربة في الثانية كما لو كان لن ينبض بعدها أبداً..تدور بيَ الدنيا و تعصف براسي ألف ذكرى وذكرى.. أهز راسي سريعاً وأحدق في الطريق الذي يقطعني واقطعه كالبرق عبر النافذة وأحاول اقتباس شيء غير الدمار لأذكره كلما صرخ الاكتئاب باذني لا دار لك سوى الحضيض
“سبعون كيلو”
أحكم قبضتي وأضرب راسي بزجاج النافذة البارد وأقاوم اضطراب السيارة فوق الطريق الوعرة، لأستحضرها ما حيّت صورة صافية كأنهارها وسمائها.. هادئة كجوامعها وأزقتها
“خمسون كيلو”
أفتح النافذة وأمد رأسي لاستشعر راحتيها تتحسس وجهي نسماتٍ ناعمةً كأم كفيفة تقرأ ملامح طفلها لأول مرة.. تقول لي انتِ مني.. خداك ياسميني.. عيناك الأمويين.. ودِماكِ بردى..خطوط كفيكِ يا صغيرتي دروبي و نبضك صوت الأذان و ترانيم الكنائس
أحل ربطة شعري لتجدله لي لآخر مرة.. أراده أبي لآخر ظهري لكن لم يكفيه عمره ليراه ولم تكفيني سنواتي التسع أن أطيله.. فخذيه عهداً.. لا أحل جديلتي حتى أعود
“عشرون كيلو..تودعوا”
أغمضت عيني عليها.. أودعتها روحي.. وملأت صدري غيمةً منها فهمش عقلي رائحه الدماء والبارود ليطغى الياسمين كما لو كان عرَّشَ على أضلعي
“لم يبقى شيء للحدود.. ترجلوا”
نزلت ووقفت تائهةً..زائغة النظرات
“أسرعي..ابتعدوا” وشدني من يدي “تحركي” فخرجت عن صمتي وقلت بلوعةٍ.. “أ..أ..أمهلني خمس دقائق” أشحت وجهي نحوها وسألتها..”أخبأتهم..! أخبأتِ كل شيء جيداً..! صوري..أهلي.. لُعبي.. منزلي..”
..فتنهدت وعلت بيَ الأرض القابعة على صدرها شيئاً بسيطاً ثم عادت واستوت
فخررت ساجدةً ومرغت وجهي بترابها..دسسته كما تدس أم الشهيد وجهها بصدر ابنها مشتمةً زكي دمائه عاذلةً إياه رغماً عنها وإن لم تبدي.. وهمست.. أحسنتِ إيداعاً..لم تخيبي أملي.. لكن نسيتيني حبيسة ذا الجسد

!.شارك مع أصدقائك

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on email
Email
Share on whatsapp
WhatsApp

Leave a Reply

المزيد للقراءة

عصفورة

عصفورةٌ طارت إليَّ تبخترا…ألقت سلاماً بالحياءِ تخمرا من حلوةٍ ذاب الفؤاد بحبها…شقراءُ تخفي في عيونها أبحرا كالبدر إن طلَّت أنار جمالها…والجمع ُإن تبدو يصيح مكبرا

...تابع القراءة

الرمادي

..أكره اللون الرمادي بشدة..أكرهه من أعماق أعماق قلبي عاهدت نفسي أن لا أقحم الكره في قلبي ما حيّت لكنه نجح باعجوبة بكسر عهدي..لربما ليس ذنبه

...تابع القراءة